الأربعاء، 15 ديسمبر 2021

فن الرفق


ليس من متسع للقول: إننا ننشد عالم البطء مجدداً، فنحن بالفعل في شرفة قصية من العالم، نرقب الحروب تنمو صغيرة نزقة ثم تندفع هادرة جهة الغرب والشمال، ونربي غرباناً لتصبح عواصف وأعاصير المدن الكبيرة. ولا تشوب قلوبنا شوائب التنبؤ، فنحن نتقن صمت النوايا، حتى أن الأفاعي تجفل عندما ينكسر الغصن تحت حذاء أحدنا.

نحن البطء مجرداً، لدينا شارع واحد جعلناه دائرياً لكي نتحدث عنه بصيغة الجمع إذا عن لنا ذلك، ولدينا اسم واحد للقلق، وألف اسم للتأني. ولدينا لافتتان لإرشاد المارة، واحدة للترحيب، وواحدة أجبرتنا عليها الحكومة لتحمل اسم جزيرتنا بكل اللغات. لكننا رسمنا عليها سلحفاة.

لقد رسم جزيرتنا يوتو الحكيم عندما كان طفلاً، على لوح في باحة البيت وهو يأكل الدوراياكي، يقول أن أمه قد استيقظت باكراً لتجد جزيرته قائمة ومجردة أمام عينها، كان بوسعها أن تراها من نافذة البيت الساحلي، تنعقد في دوائر الشعاع مباشرة من الشمس، وتتكون، نزولاً، رملاً، وأشجار موز، وسلاحف، وضفادع، وأنجم بحرٍ بلا عدد. إنها القصة الوحيدة المشتهاة، نرددها بلا كلل على جزيرتنا ونضيف لها التفاصيل الني نحسن تجويدها: لونا لأصداف البحر يومها، أو اسماً لشجرة، أو نقشاً في معطف الأم عندما رأت الجزيرة. تفصيلاً واحداً كل مرة.

لقد مر وقت طويل منذ ذلك الحين، عرفنا ذلك من ذبول ورق الموز على أشجاره، ومن تجعيدة صغيرة على صدغ يوتو الحكيم. صدأت عقارب الثواني في ساعاتنا لفرط البطء، ووجدت السلاحف كل وقتها للتطور والتجول على الساحل جيئة وذهاباً. إنه الزمن مجللاً بحكمة الرفق، يخفف خطواته ليفسح الطريق لفكرة تتخلق مثل الندى: ثرية ومكتنزة ومحددة مثل نصل. حتى جاء نهار ووجدنا ذلك السائح الغريب نائماً كيفما اتفق وسط حشائش الشاطئ ودبيب قواقعه. وكزه الأطفال بغصن أخضر فلم يتحرك، وعندما أفاقه بعضنا وفتح عينيه وإذا بكل زبد البحار وركام الشواطئ ينبعث من هناك. قال إنه ضل طريقاً وفقد أصدقاء في لجة من لجج عقله سماها الفرص. ولم نعرف أي شيء تعني الفرص.

أجلسنا الغريب مكللاً بالوهن بجانب يوتو الحكيم، مفتقراً للحياة كما لو كانت كل أفاعي الجزر قد حدقت في عينيه لأيام، قال الحكيم إن أمراض المدن البعيدة لا حمى لها، وإنما إعياء يوهن القلب والكتفين، وهذيان عن الفرص والمطاردة. وإن من الخير لو علمناه رسم الجزر الجديدة على تراب الشاطئ وتركناه لرذاذ المحيط، أو نسلمه، عند فساد الأحوال، لحقيبته، ومصيره، وغده الذي لا نعرفه. فهو كما ترون (قال الحكيم) يطيل النقر على مسند المقعد، ويهز قدمه ليفرغها عبثاً من نفاد الرفق المزمن الذي يسمونه التوتر، إنه مصاب بشكل لا يرجى برؤه بالعجَلة، بمجرد العجلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نظرية كل شيء تقريباً.

تقول مفارقة كلاسيكية إن بائع الصحف يعرف أحداث العالم الكبرى عبر المعايشة والدراية غير المباشرة، وليس عبر قراءة ما يبيعه من صحف. إذ أن المعاي...