تقول مفارقة كلاسيكية إن بائع الصحف يعرف أحداث العالم الكبرى عبر المعايشة والدراية غير المباشرة، وليس عبر قراءة ما يبيعه من صحف. إذ أن المعايشة اليومية، والكثافة، والتدفق المستمر لعدة أقنية متنوعة ستدفع به إلى الإكتفاء بما يظنه يفسر العالم من حوله، بنظرية شاملة كونها بصبر، يوماً بعد يوم قابلة لتفسير ضجر الأطفال من اليوم الدراسي، والأعراض الصحية غير المفسرة، والتقلبات السياسية في دول حوض البحر المتوسط، وسيتكفل التكرار الرتيب، وعشوائية الأحداث اليومية، بتحويلها إلى نمط متكرر لنظرية مريحة: نظرية لكل شيء تقريباً.
إن "نظرية كل شيء تقريباً" كما يفسرها بائع الصحف، تبدو يوماً بعد يوم المهارة التي فقدها إنسان العصر الحديث المولع بالتخصص، لكن الحنين العميق لزمنها يأتي على شكل الدعوة إلى العودة للقراءة الحرة، أو الانفصال مؤقتاً عن الإنترنت للذهاب إلى المكتبة العامة، أو ما تفعله أقسام الموارد البشرية عن السعي لتوظيف كتاب المحتوى التسويقي عندما يسألون متقدماً جديداً: ماذا تعرف خارج مجال تخصصك. إذ لا تكفي معرفة مبسطة عن ظروف مؤسسة ما، أو نطاق استهداف تلك المؤسسة، لكتابة الصورة الشاملة المولدة لمنتجات أصغر تخدم الهدف. بل تتنامى الحاجة لإلمام شامل بالظرف العام، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إلماماً يقود إلى التقييم الصحيح لوجهة الرسالة ومعناها.
ابتداءً من خمسينات القرن الماضي، قادت مجموعة من العوامل، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الناسَ إلى الانتقال إلى نمط استهلاكي من المعيشة بدلاً من نمط أكثر بساطة كان سائداً لمئات السنين. كان على الناس في النمط الحديث استبدال عادة شراء مواد أولية، كالطحين والفحم، من بائعين تقليديين، بشراء حلويات مصنعة وأمواس حلاقة بلاستيكية من سلاسل متاجر كبرى. أوكلت مهمة أخذ تلك المجتمعات لبوابات العصر الاستهلاكي إلى كُتّابٍ مجهولين أطلق عليهم لأول مرة مسمى "Copywriter" وكان سلاحهم هو كتابة مجموعة من القصص والأفكار حول طيف واسع من الأطعمة، والمعدات، وأقلام الكتابة، والمشروبات الغازية، وضرورتها لحياة سعيدة مختلفة، راعت تلك القصص الخصوصية الاجتماعية للمجموعات المستهدفة، كما أحاط صناعها علماً بالسائد السياسي العام، والظروف والمصاعب الاقتصادية للشعوب، لتكون بالتالي نواة مبكرة لاتجاه حديث من صناعة المحتوى التسويقي القائم على دراسات الأسواق واستكشافها.
لقد قطع عالمنا رحلة طويلة منذ اختراع المتاجر الكبرى وكُتاب الإعلانات، اخترع الإنترنت وتخلى عن باعة الصحف، خاض مراحل توتر طويلة وأصبح يعاني من صعوبة التركيز واللاتزامن، لكنه اخترع نظريته الغامضة لكل شيء تقريباً، تستطيع قراءتها بين سطور إعلانات شاشة الطائرة أثناء سفرك وفي مقاطع الفيديو الأكثر انتشاراً في حساب YouTube الخاص بك. إنها ثقافة أفقية شاملة تقرأ الفروقات والخصوصيات المحلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتستجيب لحاجة مؤسساته الاستقرائية "ماضيًا" والاستشرافية "مستقبلاً"، وتستطيع إعمال أدوات بحثها في أي شيء، وأي وقت.