الاثنين، 10 يناير 2022

نظرية كل شيء تقريباً.

تقول مفارقة كلاسيكية إن بائع الصحف يعرف أحداث العالم الكبرى عبر المعايشة والدراية غير المباشرة، وليس عبر قراءة ما يبيعه من صحف. إذ أن المعايشة اليومية، والكثافة، والتدفق المستمر لعدة أقنية متنوعة ستدفع به إلى الإكتفاء بما يظنه يفسر العالم من حوله، بنظرية شاملة كونها بصبر، يوماً بعد يوم قابلة لتفسير ضجر الأطفال من اليوم الدراسي، والأعراض الصحية غير المفسرة، والتقلبات السياسية في دول حوض البحر المتوسط، وسيتكفل التكرار الرتيب، وعشوائية الأحداث اليومية، بتحويلها إلى نمط متكرر لنظرية مريحة: نظرية لكل شيء تقريباً.

إن "نظرية كل شيء تقريباً" كما يفسرها بائع الصحف، تبدو يوماً بعد يوم المهارة التي فقدها إنسان العصر الحديث المولع بالتخصص، لكن الحنين العميق لزمنها يأتي على شكل الدعوة إلى العودة للقراءة الحرة، أو الانفصال مؤقتاً عن الإنترنت للذهاب إلى المكتبة العامة، أو ما تفعله أقسام الموارد البشرية عن السعي لتوظيف كتاب المحتوى التسويقي عندما يسألون متقدماً جديداً: ماذا تعرف خارج مجال تخصصك. إذ     لا تكفي معرفة مبسطة عن ظروف مؤسسة ما، أو نطاق استهداف تلك المؤسسة، لكتابة الصورة الشاملة المولدة لمنتجات أصغر تخدم الهدف. بل تتنامى الحاجة لإلمام شامل بالظرف العام، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إلماماً يقود إلى التقييم الصحيح لوجهة الرسالة ومعناها.

ابتداءً من خمسينات القرن الماضي، قادت مجموعة من العوامل، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الناسَ إلى الانتقال إلى نمط استهلاكي من المعيشة بدلاً من نمط أكثر بساطة كان سائداً لمئات السنين. كان على الناس في النمط الحديث استبدال عادة شراء مواد أولية، كالطحين والفحم، من بائعين تقليديين، بشراء حلويات مصنعة وأمواس حلاقة بلاستيكية من سلاسل متاجر كبرى. أوكلت مهمة أخذ تلك المجتمعات لبوابات العصر الاستهلاكي إلى كُتّابٍ مجهولين أطلق عليهم لأول مرة مسمى "Copywriter" وكان سلاحهم هو كتابة مجموعة من القصص والأفكار حول طيف واسع من الأطعمة، والمعدات، وأقلام الكتابة، والمشروبات الغازية، وضرورتها لحياة سعيدة مختلفة، راعت تلك القصص الخصوصية الاجتماعية للمجموعات المستهدفة، كما أحاط صناعها علماً بالسائد السياسي العام، والظروف والمصاعب الاقتصادية للشعوب، لتكون بالتالي نواة مبكرة لاتجاه حديث من صناعة المحتوى التسويقي القائم على دراسات الأسواق واستكشافها.

لقد قطع عالمنا رحلة طويلة منذ اختراع المتاجر الكبرى وكُتاب الإعلانات، اخترع الإنترنت وتخلى عن باعة الصحف، خاض مراحل توتر طويلة وأصبح يعاني من صعوبة التركيز واللاتزامن، لكنه اخترع نظريته الغامضة لكل شيء تقريباً، تستطيع قراءتها بين سطور إعلانات شاشة الطائرة أثناء سفرك وفي مقاطع الفيديو الأكثر انتشاراً في حساب YouTube الخاص بك. إنها ثقافة أفقية شاملة تقرأ الفروقات والخصوصيات المحلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتستجيب لحاجة مؤسساته الاستقرائية "ماضيًا" والاستشرافية "مستقبلاً"، وتستطيع إعمال أدوات بحثها في أي شيء، وأي وقت.

الأربعاء، 15 ديسمبر 2021

فن الرفق


ليس من متسع للقول: إننا ننشد عالم البطء مجدداً، فنحن بالفعل في شرفة قصية من العالم، نرقب الحروب تنمو صغيرة نزقة ثم تندفع هادرة جهة الغرب والشمال، ونربي غرباناً لتصبح عواصف وأعاصير المدن الكبيرة. ولا تشوب قلوبنا شوائب التنبؤ، فنحن نتقن صمت النوايا، حتى أن الأفاعي تجفل عندما ينكسر الغصن تحت حذاء أحدنا.

نحن البطء مجرداً، لدينا شارع واحد جعلناه دائرياً لكي نتحدث عنه بصيغة الجمع إذا عن لنا ذلك، ولدينا اسم واحد للقلق، وألف اسم للتأني. ولدينا لافتتان لإرشاد المارة، واحدة للترحيب، وواحدة أجبرتنا عليها الحكومة لتحمل اسم جزيرتنا بكل اللغات. لكننا رسمنا عليها سلحفاة.

لقد رسم جزيرتنا يوتو الحكيم عندما كان طفلاً، على لوح في باحة البيت وهو يأكل الدوراياكي، يقول أن أمه قد استيقظت باكراً لتجد جزيرته قائمة ومجردة أمام عينها، كان بوسعها أن تراها من نافذة البيت الساحلي، تنعقد في دوائر الشعاع مباشرة من الشمس، وتتكون، نزولاً، رملاً، وأشجار موز، وسلاحف، وضفادع، وأنجم بحرٍ بلا عدد. إنها القصة الوحيدة المشتهاة، نرددها بلا كلل على جزيرتنا ونضيف لها التفاصيل الني نحسن تجويدها: لونا لأصداف البحر يومها، أو اسماً لشجرة، أو نقشاً في معطف الأم عندما رأت الجزيرة. تفصيلاً واحداً كل مرة.

لقد مر وقت طويل منذ ذلك الحين، عرفنا ذلك من ذبول ورق الموز على أشجاره، ومن تجعيدة صغيرة على صدغ يوتو الحكيم. صدأت عقارب الثواني في ساعاتنا لفرط البطء، ووجدت السلاحف كل وقتها للتطور والتجول على الساحل جيئة وذهاباً. إنه الزمن مجللاً بحكمة الرفق، يخفف خطواته ليفسح الطريق لفكرة تتخلق مثل الندى: ثرية ومكتنزة ومحددة مثل نصل. حتى جاء نهار ووجدنا ذلك السائح الغريب نائماً كيفما اتفق وسط حشائش الشاطئ ودبيب قواقعه. وكزه الأطفال بغصن أخضر فلم يتحرك، وعندما أفاقه بعضنا وفتح عينيه وإذا بكل زبد البحار وركام الشواطئ ينبعث من هناك. قال إنه ضل طريقاً وفقد أصدقاء في لجة من لجج عقله سماها الفرص. ولم نعرف أي شيء تعني الفرص.

أجلسنا الغريب مكللاً بالوهن بجانب يوتو الحكيم، مفتقراً للحياة كما لو كانت كل أفاعي الجزر قد حدقت في عينيه لأيام، قال الحكيم إن أمراض المدن البعيدة لا حمى لها، وإنما إعياء يوهن القلب والكتفين، وهذيان عن الفرص والمطاردة. وإن من الخير لو علمناه رسم الجزر الجديدة على تراب الشاطئ وتركناه لرذاذ المحيط، أو نسلمه، عند فساد الأحوال، لحقيبته، ومصيره، وغده الذي لا نعرفه. فهو كما ترون (قال الحكيم) يطيل النقر على مسند المقعد، ويهز قدمه ليفرغها عبثاً من نفاد الرفق المزمن الذي يسمونه التوتر، إنه مصاب بشكل لا يرجى برؤه بالعجَلة، بمجرد العجلة.


الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

هذا الجملُ لكلب


في مقطع فيديو واسع التداول على يوتيوب، يترجم المستكشف والباحث السعودي "تركي المحيفر" منظومة رمزية منقوشة باللغة الثمودية على سفح جبل "أم سنمان" بمنطقة حائل شمال المملكة العربية السعودية. تتكون تلك المنظومة من رسم بديع لجمل طويل الساقين وبجانبه سطر من أربعة أحرف أفقية التكوين شبيهة بشعار "SONY"، يقول المستكشف "المحيفر" أن هذه النقوش معناها: "هذا الجمل لكلب".

قد تكون تلك العبارة أول حكاية كتبت في الجزيرة العربية، أول تغريدة، أول post، أو أول ما شئتَ من أشكال المحتوى الحديثة المتضاعفة بجنون خلال السنوات الأخيرة، وما دمنا نجد من يترجمها لنا بعد خمسة آلاف عام، فلا بد أنها، وقد كتبت بدافع الإشهار، كتبت بشكل سليم لغوياً وأسلوبياً، وأن كاتبها قد اختار أفضل جبل لنشرها. ولا بد أنه راعى حساً ذوقياً معيناً، أو مذهباً فنياً سائداً تلك الفترة، لينجزها بهذا الشكل وهذا التكوين، ومن الممكن أن تكون قد نتجت عن شكل بدائي من العصف الذهني، أو تبعها شكل آخر من النقاش والتداول والنقض والتأكيد.

من حسن حظنا أن الأعمدة الأساسية للإبداع الإنساني، كالخيال والإلهام والصناعة الأسلوبية، التي تشكل ركائز صناعة المحتوى القابل للتشكل والتوليد، لم يغيرها الإنسان طوال رحلته المديدة. ولم يغير بالمثل دوافعه للتواصل والانتشار. حمل الكاتب دائماً مجموعة المهارات، والمواهب، والأدوات، الدقيقة والغامضة التي جعلت الناس يفكرون به عند حاجة حكاياتهم لمزيد من الخلود، هذه الممارسة تقوم بها في العصر الحديث شركات ومؤسسات لها ذات التوق إلى الوصول، يدفعها إلى الاستعانة بكاتب ما في مراحل مختلفة وأشكال متعددة: بدءاً من وثيقة التأسيس العامة، والتقرير الموسمي، وليس انتهاءً بما تقوله المذيعة في البرنامج اليومي، وما يفتتح به المعلق المؤتمر العام.

إن حاجة الإنسان الفطرية إلى استكشاف ما خلف الأفق، والجبل البعيد، هي ما دفع كاتب محتوى مجهول من العصر الثمودي إلى نشر أول حكاية نعرفها. ومع أنه استفاد من فسحة انتباه "Attention Span" بالغة الاتساع، إلى أنه أنجز منشوره بطريقة بالغة الطرافة والاقتضاب، أليس أثراً خالداً يقول ما قلناه لاحقاً بلغة حديثة: "المحتوى هو الملك"؟

نظرية كل شيء تقريباً.

تقول مفارقة كلاسيكية إن بائع الصحف يعرف أحداث العالم الكبرى عبر المعايشة والدراية غير المباشرة، وليس عبر قراءة ما يبيعه من صحف. إذ أن المعاي...